السبت، 14 يوليو 2012

مجرد صورة – محمد الفاضل

تكاد الشوارع تخلو من المارة . سكون مطبق لايعكر صفوه سوى مرور بعض المركبات بين الفينة والأخرى . بدأت ندف الثلج تتساقط من السماء تباعاً فاكتست الأرض بحلة بيضاء . الكون يلفه ضباب كثيف يحجب الرؤية ، في مشهد يشي بالوحدة والكاَبة . تهب ريح باردة فتشعر بلسعات البرد وهي تخترق المفاصل عميقاً . الجو شديد البرودة في الخارج . اشتد به السهاد ليلة أمس ولعج الهم بصدره . دس يده في جيب معطفه في محاولة مضنية للحصول على شئ من الدفء ولكن دون طائل . وبينما كان يهم بالصعود إلى الباص استوقفه مشهد امرأه في عقدها السادس كانت تقف خلفه ، شعر نحوها بعاطفة غريبة ! ياألهي ! كم يشبه وجهها وجه أمي ، كان يتمتم مع نفسه بصوت منخفض . أراد أن يبوح لها بما يعتمل في صدره من مشاعر وأحاسيس ولكنه لم يجرؤ . رمقها بنظرة حانية محبة وكان قلبه يخفق بشدة ، حانت منها التفاتة ، فعلت الحمرة وجنتيه وأطرق برأسه حياءاً . بعد دقائق قليلة ترجل من الباص وهو مازال يجول ببصره بحثاً عن وجه تلك المرأة . دلف إلى المقهى وطلب فنجاناً من القهوة ، وجلس يتأمل البخار المتصاعد من القهوة . أشعل سيجارة وبدأ ينفث الدخان في الهواء وهو يسرح بخياله بعيداً حيث دفء الشرق. على مقربة منه كان يجلس شاب ذو ملامح شرقية وهو يحتسي الشاي . بدأت تتراقص أمام ناظريه أجمل الذكريات وكانت ترتسم على محياه ابتسامة ولكن يشوبها حزن عميق لاتخطئه العين .أشعل سيجارة ثانية ، وثالثة وبدأ ينفث الدخان مجدداً بلذة ونشوة غريبة. بعد لحظات أخرج من جيب سترته شئ ما وبدأ يتأمله بصمت وخشوع . كان يقبض عليه بكلتا يديه مخافة أن يضيع ، ثم أخرج ورقة وبدا أنه يكتب شئ .وفي تلك الأثناء كان الشاب الاَخر يرقب المشهد عن بعد . فجأة خر مغشياً عليه فوق الطاولة وظلت يده اليمنى ممسكة بذلك الشئ. هرع النادل إلى الطاولة وتحلق حوله بعض زبائن المقهى الذين اعتراهم الفضول ومنهم الشاب الذي كان يجلس بجانبه ، وهم في حيرة . حاولوا اسعافه ولكن دون جدوى . دنا منه الشاب الاَخر ولشدة دهشته وجد فوق الطاولة صورة مهترأة لامرأة ، وبجانبها ورقة كتب عليها عبارة ... سامحيني ياأمي ! مجرد صورة – محمد الفاضل
Read more ...

الخميس، 5 يوليو 2012

لا ترحل ياولدي – محمد الفاضل

حاولت جاهداً أن أستجمع شجاعتي ورباطة جأشي وأتمالك نفسي أمام ذلك المشهد المشحون بالعواطف والذي يدمي القلب ويرسل الدمع السخي على الوجنات مدراراً .فعلت مابوسعي كي أكبح جماح شوقي والعبرة تخنقني. حاول إخوتي أن يضفوا جواً من المرح على المشهد ولكن ذهبت جهودهم أدراج الرياح فالشجن كان سيد الموقف . جلست والدتي على الأريكة وقد بلغ منها الإعياء مبلغه وهي تتنهد بحرقة وألم وتسيل دموعها أنهاراً ولسانها يلهج بالدعاء فقد أزفت ساعة الرحيل وماأصعبها. طبعت قبلة حارة على جبينها ولثمت يدها الطاهرة وكانت تقبض على أصابعي بشدة مخافة أن أتركها.تعانقت أرواحنا عناق الأحبة مثل الحمائم التي تلوذ بأفراخها وتحنو عليهم. بدأ صوتها يتهدج وشعرت بأنفاسها الحارة على صدري. هديل صوتها الحزين كان فوق احتمالي ، ترك جروحاً غائرة في النفس لم تندمل. تملكني إحساس بالعجز والغضب العارم من أولئك الحكام الذين يتشدقون بإنجازاتهم الوهمية ليل نهار ويقمعون الفكر! بدأ الصراع يتفاعل في خبايا نفسي الحائرة . تسارعت دقات قلبي وكأن جبلاً من الهموم يجثم على صدري. كان والدي يجلس بجانب والداتي محاولاً استيعاب مايحدث ولم ينبس ببنت شفة . بدا لي متماسكاً كعادته ، صلباً وراسخاً رسوخ الجبال ولكن عاطفته الجياشة كانت أقوى . ران صمت مطبق على أرجاء المكان ولم يكسره سوى زفراته ودموعه الحارة التي بدأت تتدفق مثل شلال يغسل جدب سنوات الغربة التي أمضيناها خارج الوطن. رمقني بنظرة حانية تسللت إلى أعماق روحي التي كانت على موعد مع الغربة مجدداً . لم يستطع أن يعبر عن مكنونات روحه المحطمة فمنذ أن أصيب بجلطة دماغية فقد على أثرها النطق وأصيبت يده اليمنى بالشلل . إنها إرادة الله ومشيئته وماأجمل الرضا والتسليم بقضاء الله. حاولت أن أتفرس في تلك العيون التي أنهكتها سنوات الغربة وتزاحمت فيها الدموع ! ياإلهي ! لم أعد أحتمل ! ماأصعب وأقسى دموع الرجال عندما تنهمر لأول مرة . لطالما كان ينهرنا عندما كنا صغاراً ، وياليتنا لم نكبر ! كان يقول أن الرجال لاتبك أبداً مهما جار عليها الزمن. ولكنه كسر القاعدة في ذلك اليوم الذي لم يمح من ذاكرتي المتعبة. تبلدت مشاعري وأصبت بصدمة وعقدت الدهشة لساني . أصابني إعياء شديد وبدأت الأرض تدور بي وكأنني في عالم اَخر. رفع يده اليسرى إلى السماء وأومأ برأسه مطرقاً ثم حانت منه التفاتة فإذا به يعد بأصابعه مشيراً باتجاهي كوني ولده الثالث الذي يسافر . وتحلق حوله باقي إخوتي وأخواتي في محاولة للتخفيف عنه . حملت وطني في حقيبتي وبعض الصور والذكريات الأثيرة على قلبي ولشدة غرابتي أحسست بثقلها على غير العادة ووجدت صعوبة بالغة في حملها ! تبرع أحد إخوتي بالمساعدة وركبنا السيارة سوية في طريقنا إلى المحطة . وفي الطريق أطلقت العنان لمشاعري وبدأت أسترجع شريط الذكريات وسرحت بخيالي الحزين إلى ذلك اليوم الذي هجرنا الوطن ! قضينا شطراً من العمر على أرصفة الأحزان ودروب الغربة ومطارات الشتات ونحن نبحث عن وطن ولم نحصد سوى الشجن ! لا ترحل ياولدي – محمد الفاضل
Read more ...