الجمعة، 23 أغسطس 2013

عصافير الغوطة تموت نائمة - محمد الفاضل

هناك فوق تخوم رابية ساحرة ومروج خضراء ، بين سفوح قاسيون ، وسط غابات الزيتون وأشجار السنديان العملاقة الضاربة جذورها في عمق التاريخ ، وأشجارالجوز ، حيث تتعانق وتتهامس أغصان الحور الباسقة والصفصاف ، عناق الأحبة وتغتسل أقدام الأشجار بمياه بردى المحبة لتبوح له بأسرارها في حوار عذب ولغة منشاة ، لتحكي قصص العشق والأرض في عاصمة الحب والياسمين . رائحة الليمون والفل والأقحوان تنشر شذاها في أرجاء المكان . في تلك القرية الوادعة التي تغتسل بالعطر والطهر , وتغفو على رائحة البنفسج والختمية وشجر الاَس ، الخارجة من حكايات ألف ليلة وليلة ، حيث ينتشر العطر ويتسرب عبر حواري وزواريب الشام العتيقة , وتصحو على شدو الحساسين والشحارير. جلست شام وقد علا وجهها مسحة حزن ، تتفرس ملياً في وجوه أطفالها الأربعة وكأنها تراهم لأول مرة ، وقد تزاحمت الأسئلة في رأسها المتعب . " لن أرجع خالية الوفاض" ، كانت تحدث نفسها . " انهم يتضورون جوعاً ولابد أن أفلح هذه المرة " حاولت أن تهدئ من روعهم وتبث الطمأنينة في نفوسهم الطاهرة ، عيونهم كانت تلمع ببريق غريب ، اخترقت سهامه قلبها المترع بالأحزان ، فبدأ يسري في كامل جسدها المتهالك. أشاحت بوجهها بعيداً عنهم مخافة أن يرى فلذات كبدها حبات اللؤلؤ وهي تتساقط فوق شرفات وجنتيها الشاحبة ، وهي تبتلع الغصات لتبدو متماسكة. اندس الأطفال في فراشهم وبدأت الأم تقص عليهم حكايات الشاطر حسن ، وماهي إلا هنيهة حتى غلبهم النعاس وبدأوا يغطون في سبات عميق مثل حكاية الأميرة النائمة . كم كانت تلك الحكايات أثيرة على نفوسهم . بدت أضواء القرية كالنجوم وهي تتراقص من بعيد ، في مشهد تخشع له القلوب. ألقت عليهم نظرة وداع وهي تحث الخطى لتبدأ مشوارها اليومي في البحث عن الطعام ، تحاملت على نفسها برغم أوجاعها المزمنة . وفي طريق عودتها بدأ القلق يساورها و يتسرب إلى نفسها رويداً رويداً ، حتى بدت مثل طيور السمان وهي تبحث عن فراخها الصغار . طيور السمان تشكل هدفاً للصيادين حيث تلاحق أسرابها ومع ذلك تبقى وفيرة العدد. بدأت القرية تلوح من بعيد وهي تمشي بخطوات متسارعة على غير عادتها ، ساد السكون المكان وبدأت نبضات قلبها تتسارع . ياإلهي مشهد رهيب ! مئات الأطفال والنساء نيام مثل حكايات الأميرة النائمة ، يغطون في سبات أبدي ، أصيبت بالذهول من هول الكارثة ! حاولت أن توقظ أولادها ولكن دون جدوى . عصافير الغوطة تموت نائمة – محمد الفاضل
Read more ...

الأربعاء، 2 يناير 2013

للخبز طعم اَخر – محمد الفاضل

تحلق أفراد الأسرة حول أعواد الحطب المشتعلة وهم يرقبون مشهد الشرارات المتطايرة والأدخنة المنبعثة من موقد قديم في ذلك المساء البارد ، مساءات كانون لها طعم خاص وطقوس أثيرة على نفوس أبناء تلك المدينة الوادعة التي تغفو على ضفاف نهر العاصي. سكون مطبق يخنق الروح ، لم يكسر وتيرته سوى زفرات الأم وهي تتنهد بحرقة وتغالب دموعها التي تزاحمت في مقلتيها وبدأت تنساب بغزارة مثل نبع حزين على وجنتيها التي علاها الشحوب ، وبدأ الهم يظهر جلياً على محياها برغم شبابها ! حاولت جاهدة أن تبدو قوية أمام أطفالها الأربعة فبعيد مقتل توأم روحها ورفيق دربها والمعيل الوحيد للأسرة أضحت الحياة تسير بتثاقل وإيقاع بطئ يغلب عليها الترقب والقلق من مصير مجهول . هدأت أصوات الانفجارات على غير عادتها وإن كان يسمع من بعيد أصوات طلقات متقطعة بين الفينة والأخرى ، حتى كفاح لم تعد تستهويه ألعاب أقرانه من أولاد الحي ، فجأة أحس بثقل المسؤولية وضغوط الحياة وشظف العيش فقد كست ملامحه علامات الصرامة والجدية. بدأت السماء ترعد مزمجرة وتعزف سمفونية حزينة من خلال قطرات المطر وهي ترتطم تباعاً بسطح المنزل القديم ، شعر بالبرودة تتسلل إلى كامل جسده النحيل فلم يجد سوى معطف والده القديم ليرد عنه البرد ، والذي أصبح رفيقه المفضل .في ذلك الصباح الذي لن يمحى من ذاكرة أهالي المدينة ، نهض كفاح مبكراً كعادته وهرع مسرعاً نحو أخيه الأصغر لتبدأ رحلة المعاناة ومشوار الحصول على لقمة العيش رغم تواجد القناصة ، وذلك بالوقوف أمام الفرن في طوابير قد تمتد بعيداً. تجمع أبناء الحي للحصول على ربطة خبز تسد جوعهم ، وفي تلك الأثناء تناهى إلى سمعهم صوت طائرة وهي تحوم فوق المكان ، فجأة سمع دوي انفجار هائل يصم الأذان ، هز المدينة بأكملها وتصاعدت أعمدة الدخان لتصل إلى عنان السماء ، انبعثت رائحة الدخان وشواء اَدمي. لوحة رهيبة ، الأشلاء المقطعة تنتشر في كل مكان وتغطي مساحة شاسعة ، الدماء تغطي أرضية الشارع والرصيف ، حاول كفاح أن يستوعب ماحدث فالمشهد يفوق الوصف ويتجاوز الخيال . لم يقو على الحركة ، استدار برأسه وهويسمو فوق جراحه في محاولة للبحث عن أخيه الصغير وهومازال ممسكاً بربطة الخبز . هاله مارأى !!! على مقربة منه كان يرقد أخوه الأصغر والدماء تغطي وجهه الصغير ولم يبق منه سوى الجزء العلوي من جسده . في ذلك اليوم الدامي تناقل أبناء المدينة خبر ذلك الطفل الذي لم تفارق الإبتسامة روحه البريئة وهو ممسك برغيف خبز أحمر! للخبز طعم اَخر – محمد الفاضل
Read more ...